تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 389 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 389

389 : تفسير الصفحة رقم 389 من القرآن الكريم

** فَلَمّا قَضَىَ مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطّورِ نَاراً قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النّارِ لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشّجَرَةِ أَن يَمُوسَىَ إِنّيَ أَنَا اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رّبّكَ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
قد تقدم في تفسير الاَية قبلها أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأتقاهما, وقد يستفاد هذا أيضاً من الاَية الكريمة حيث قال تعالى: {فلما قضى موسى الأجل} أي الأكمل منهما, والله أعلم. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قضى عشر سنين وبعدها عشراً أخر, وهذا القول لم أره لغيره, وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير, فالله أعلم. وقوله: {وسار بأهله} قالوا: كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله, فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه, فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره, فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة, فنزل منزلاً, فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئاً, فتعجب من ذلك, فبينما هو كذلك {آنس من جانب الطور نار} أي رأى ناراً تضيء على بعد {فقال لأهله امكثوا إني آنست نار} أي حتى أذهب إليها {لعلي آتيكم منها بخبر} وذلك لأنه قد أضل الطريق {أو جذوة من النار} أي قطعة منها {لعلكم تصطلون} أي تستدفئون بها من البرد, قال الله تعالى: {فلما أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن} أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب, كما قال تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة, والجبل الغربي عن يمينه, والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي, فوقف باهتاً في أمرها, فناداه ربه {من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة}.
قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: رأيت الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام سمرة خضراء ترف, إسناده مقارب. وقال محمد بن إسحاق عن بعض من لا يتهم عن وهب بن منبه قال: شجرة من العليق, وبعض أهل الكتاب يقول إنها من العوسج. وقال قتادة: هي من العوسج, وعصاه من العوسج.
وقوله تعالى: {أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه, تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه.
وقوله: {وأن ألق عصاك} أي التي في يدك كما قرره على ذلك في قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى ؟ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} والمعنى أما هذه عصاك التي تعرفها {ألقها فألقاها فإذا هي حية تسعى} فعرف وتحقق أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء: كن فيكون, كما تقدم بيان ذلك في سوره طه, وقال ههنا: {فلما رآها تهتز} أي تضطرب {كأنها جان ولى مدبر} أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها وقوائمها, واتساع فمها واصطكاك أنيابها وأضراسها, بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها, تنحدر في فيها تتقعقع كأنها حادرة في واد فعند ذلك {ولى مدبراً ولم يعقب} أي ولم يكن يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك, فلما قال الله له: {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الاَمنين} رجع فوقف في مقامه الأول, ثم قال الله تعالى: {اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} أي إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها, فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق, ولهذا قال: {من غير سوء} أي من غير برص.
وقوله تعالى: {واضمم إليك جناحك من الرهب} قال مجاهد: من الفزع, وقال قتادة: من الرعب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية, والظاهر أن المراد أعم من هذا, وهو أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب وهو يده, فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف, وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده, فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ صالح, أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم عن مجاهد قال: كان موسى عليه السلام قد ملىء قلبه رعباً من فرعون, فكان إذا رآه قال: اللهم إني أدرأ بك في نحره, وأعوذ بك من شره, فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام, وجعله في قلب فرعون, فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار.
وقوله تعالى: {فذانك برهانان من ربك} يعني إلقاء العصا وجعلها حية تسعى وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء, دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار, وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه, ولهذا قال تعالى: {إلى فرعون وملئه} أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع {إنهم كانوا قوماً فاسقين} أي خارجين عن طاعة الله, مخالفين لأمره ودينه.

** قَالَ رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * قَالَ سَنَشُدّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ
لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون الذي إنما خرج من ديار مصر فراراً منه وخوفاً من سطوته {قال رب إني قتلت منهم نفس} يعني ذلك القبطي {فأخاف أن يقتلون} أي إذا رأوني {وأخي هارون هو أفصح مني لسان} وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة, فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه, فحصل فيه شدة في التعبير, ولهذا قال: {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري} أي يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم, وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد, ولهذا قال: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردء} أي وزيراً ومعيناً ومقوياً لأمري, يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل, لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد, ولهذا قال: {إني أخاف أن يكذبون}.
وقال محمد بن إسحاق {ردءاً يصدقني} أي يبين لهم عني ما أكلمهم به, فإنه يفهم عني ما لا يفهمون, فلما سأل ذلك موسى قال الله تعالى: {سنشد عضدك بأخيك} أي سنقوي أمرك, ونعز جانبك بأخيك الذي سألت له أن يكون نبياً معك, كما قال في الاَية الأخرى: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} وقال تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبي} ولهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام, فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً معه إلى فرعون وملئه, ولهذا قال تعالى في حق موسى {وكان عند الله وجيه}.
وقوله تعالى: {ونجعل لكما سلطان} أي حجة قاهرة {فلا يصلون إليكما بآياتن} أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله, كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ إلى قوله ـ والله يعصمك من الناس} وقال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ـ إلى قوله ـ وكفى بالله حسيب} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً ومؤيداً, ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والاَخرة, فقال تعالى: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدني} إلى آخر الاَية, ووجه ابن جرير على أن المعنى: ونجعل لكما سطاناً فلا يصلون إليكما, ثم يبتدىء فيقول: {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} تقديره أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا, ولا شك أن هذا المعنى صحيح, وهو حاصل من التوجيه الأول, فلا حاجة إلى هذا, والله أعلم.